أ.د. أيمن وزيري يكتب عن “مواجهة الأمراض وعلاج الفيروسات في المجتمع المصري القديم”
بقلم/ أ.د./ أيمن وزيري
أستاذ الآثار والحضارة المصرية بكلية الآثار-جامعة الفيوم
رئيس قسم الآثار المصرية بكلية الآثار- جامعة الفيوم ونائب رئيس إتحاد الأثريين المصريين
حينما يتردد إسم مصر القديمة فيتبادر إلى الذهن الإنجازات الكبيرة في مجالات العمارة والفنون، ولكن تغيب عن الأذهان ماهية الإنجازات الأخرى والتي لا تقل أهمية مثلما هو الحال في مجالات العلوم، وأهمها الطب، والصيدلة، والفلك، والرياضيات، والهندسة وغيرها … ولقد نال الطب المصري القديم شهرة كبيرة لدى الدول المجاورة مثل “سوريا، وبلاد النهرين، وفارس، وخيتا، وفينيقيا”، وهي الدول التي لجأت لمصر لكي تمدها بالمتخصصين في بعض الأمراض لعلاج حالات لديها. والمعروف أن اليونانيين تعلموا كثيرًا من المصريين في مجالات التشخيص الطبي والجراحة والعلاج والعقاقير، وهو أمر يقرونه في مصادرهم. إن إنجازات الحضارة المصرية ليست – كما يبدو للبعض- مقصورة على العمارة والفنون، ولكنها إنجازات في مجال العلوم بوجه عام، وفي الطب بوجه خاص، ما يجعلنا نفاخر به بين الحضارات القديمة الأخرى. كما إن إبداعات الحضارة المصرية في كافة مجالات الحياة تتطلب دون شك أجسادًا سليمة معافاة، إلى جانب عقول متقدة تستطيع أن تنهض بعبء هذه الإبداعات، فالمجتمع الذي يتسم بسلامة أفراده عقليًّا وجسديًّا سوف يتسم بإنجازات على نفس المستوى من سلامة المجتمع. والمجتمعات المُتحضرة تُقاس بمعايير كثيرة من بينها السلامة البدنية، الأمر الذي يتطلب طبًّاً متقدمًا، فالطب يولد لتأمين حياة الإنسان من أخطار الأمراض، ومن ثم فقد أصبح يمثل قطاعًا مهمًّا في حياة البشر. ومن خلال الوثائق الطبية التي تركها لنا المصري القديم يمكن أن نتبين أنه أبدى اهتمامًا شديدًا بمعرفة أسباب المرض وتشخيصه وعلاجه، ومنذ بداية ظهور الإنسان على سطح الأرض بدت حاجته واضحة للتعامل مع الأمراض التي تصيبه، والتي تتطلب علاجًا يشفى منها. ولقد إهتم بعض ملوك مصر القديمة بعلوم الطب والصيدلة ، فورد أن الملك “ﭼر” والملك “دن” كانا على إهتمامٍ خاصٍ بعلوم الطب، كما ورد أن الملك “عحا” من الأسرة الأولى كان يُلِّم بعلم الصيدلة وكان يمارسها في بعض معابد مصر السفلى مثل معبد باستت (في الزقازيق)، حيث كان هناك كاهن يحمل لقب “رئيس الأطباء”. ولقد ورد في برديتي “إدوين سميث” و”إيبرس” أن كاهن المعبودة “سخمت” في “تل بسطة” كان متمرسًا في علوم الطب والصيدلة، كما ورد في نفس البرديتين ما يلي: “إن الأصل في الطب هو القلب، وعندما تفحص (موجهًا القول للطبيب) أي عضو من أعضاء الجسد، فإنك يجب أن تعلم كثيرًا عن القلب”. ومن “سايس” (صا الحجر) يقول كبير الأطباء “وجا حر سنب”: “أمرني جلالة الملك أن أُعنى بمدرسة الطب بكل فروعها، وأننا يجب أن نختار أحسن الطلاب لدراسة هذا العلم، وأن نمدهم بكافة احتياجاتهم”. وفي “هليوبوليس” – كما ورد في بردية هرست- فإن طبيبًا من “بيت الحياة” كان متخصصًا في علاج الأمراض الناتجة عن السحر والسحرة. ولقد دلت كلمة Swnw في اللغة المصرية القديمة عن معنى “طبيب”، وطبقًا لنصوص مصرية قديمة فإن من يحمل هذا اللقب ويشغل هذه الوظيفة كان يجب أن يكون مؤهلاً وموهوبًا إلى حد كبير، وكان بوسع الطبيب أن يحمل ألقابًا أخرى تمثل أعمالاً أخرى يمارسها إلى جانب الطب مثل “الكهانة”. ولقد كان هناك أربع درجات من الأطباء هي: الطبيب، كبير الأطباء، مفتشو الأطباء، مديرو الأطباء. والواضح أن كلمة Swnw كانت تُشير إلى طبيب بوجه عام، سواء أكان ممارسًا، أم جراحًا، أم طبيب أسنان، أم بيطريًّا، أم صيدليًّا… وكان الطبيب يعتبر في المراحل الأولى من عمله طبيبًا ممارسًا، وبعد سنوات من الخبرة يبدأ مرحلة التخصص. وكان الأطباء يتواجدون في أماكن عمل المجموعات من البشر أو التجمعات حيث منبت العدةى والفيروسات، وذلك مثل المناجم والمحاجر وإقامة المنشآت الكبيرة (المعابد– المقابر– القصور)، وكانوا يعالجون الأمراض المختلفة إلى جانب حالات السموم الناجمة عن لدغ الثعابين والعقارب. وتذكر النصوص المصرية القديمة أن بعض ملوك مصر كانوا يوفدون إلى حكام سوريا وبلاد النهرين أطباء مصريين لعلاجهم بناءًا على طلبهم. ومن أهم المصادر الطبية في مصر القديمة كانت “بردية اللاهون”، “بردية هرست”، “بردية إيبرس”، “بردية برلين”، “بردية إدوين سميث”، “بردية لندن”، “بردية ليدن” ، ” بردية كارلسبرج”، “بردية شستر بيتي”، وهي برديات تتضمن معلومات عن العدوى والفيروسات والأمراض المختلفة، والوصفات والعلاجات الطبية. وإلى جانب ذلك فقد عثر على أطلال بعض المصحَّات، كما أشير إلى دور البعض الآخر في النصوص المصرية التي وردت على بعض معابد العصور المتأخرة وأخيرًا هناك عشرات الأدوات الطبية، التي عثر عليها والتي يحتفظ بها في المتاحف المختلفة، بالإضافة إلى ما سجل منها على جدران الآثار المصرية. ولقد كان هناك خطوات للتعامل مع المرض حيث كان يُحدَّد الطبيب المصري القديم لنفسه مجموعة من الخطوات ليصل بها إلى إمكانية التشخيص واقتراح العلاج، والتي تكمن في ” تحديد الحالة”، “الفحص الإكلينيكي بالشم واللمس والضغط بالأيدي والحوار مع المريض”، “التشخيص”، “تحديد العلاج أو إجراء جراحة إن كانت هناك ضرورة”، “متابعة الحالة بشكل دوري” . ولقد تضمنت البرديات الطبية العديد من الأمراض التي أمكن للأطباء تشخيصها والتعامل معها، والتي يمُكن حصرها فيما يلي: أمراض الرأس، أمراض الأنف والأذن والحنجرة، أمراض الأسنان، أمراض العيون، الأمراض الباطنية ، أمراض الشرج، أمراض الأورام ، أمراض النساء، أمراض القلب، الأمراض العصبية، الأمراض الجلدية، أمراض المسالك البولية ، أمراض الصدر، أمراض العظام، أمراض سوء التغذية، أمراض الأطفال….. وفي محاربة الفيروسات والعدوى، استخدم المصري القديم بعض النباتات الأعشاب والتي كان من أهمها: “البصل، والثوم، والجميز، والخيار، والبلح، وزيت الخروع، والدوم، والشعير، والصمغ الأبيض، والبقدونس، والزعفران، والفجل، والقرفة، والكمون، والمر، والنعناع”، وقد بلغ عدد النباتات والأعشاب المُستخدمة في إعداد العقاقير تسعين نوعًا، والتي قد أثبت العلم الحديث مدى فعاليتها في مواجهة الأمراض والفيروسات والعدوى . وأخيرًا فإن التقدم الذي وصل إليه الطب في مصر القديمة ما كان يمكن أن يحدث دون الكثير من العوامل المساعدة، وعلى رأسها اهتمام الدولة بصحة مواطنيها، ونظافة البيئة التي يعيش فيها الإنسان المصري، الأمر الذي حدثتنا عنه بعض النصوص المصرية القديمة، وذلك ما ساعد على أن يكون المجتمع صحيحًا معافًى.