هل توجد «دولة عميقة» بإسرائيل ؟
كتب: د/ أحمد البهنسي
رغم تخصصي على مدار سنوات طويلة بملف الشؤون الإسرائيلية ومتابعتي شبه اليومية للصحافة الإسرائيلية وإصدارات مراكز الأبحاث والفكر الإسرائيلية عن كثب، إلا أن واحدًا من الأسئلة الصعبة التي واجهتها في هذا المجال كان «هل توجد دولة عميقة في إسرائيل؟»
قبل أن أجيب عن هذا السؤال كان عليَّا أن أحدد تعريفًا علميًا دقيقًا لمفهوم «الدولة العميقة»، ووفق ما أسعفتني به المعلومات المتاحة وجدت شبه اتفاق بين الباحثين على أن هذا المفهوم يعود للدولة التركية لاسيما في الفترة المحصورة من أواخر انهيار الخلافة أو الامبراطورية العثمانية حتى قيام الدولة التركية على يد كمال اتاتورك، الذي كان يمثل حزبه دولة داخل الدولة «دولة عميقة» خلال هذه الفترة.
ورغم اختلاف الباحثين حول وضع تعريف محدد لمفهوم الدولة العميقة أو Deep State إلا أن التعريف الأكثر تداولا يشير إلى « مجموعة من الكيانات المخفية والأشخاص غير المنتخبين الذين ينتظمون في شبه تنظيم يهدف لتحقيق مصالح وإسقاط الدولة أو استغلالها»، كما يشير في الكثير الأدبيات المتعلقة به إلى «الشكل التآمري» داخل أجهزة الدولة لاسيما الأمنية منها.
لم يكن هذا الاختلاف حول تعريف الدولة العميقة عائقًا – في حد ذاته – حال دون إجابتي على تساؤل ما إذا كانت هناك دولة عميقة في إسرائيل، لكن الإجابة الأصعب تمثلت في معرفة ماهية هذه الدولة وتأثيرها ودورها وحدود تواجدها داخل إسرائيل، والأهم من ذلك مدى ارتباطها بجهات وقوى خارجية لاسيما بالولايات المتحدة، وكذا مدى تأثير هذه الدولة في عملية صنع القرار داخل إسرائيل لاسيما منذ عقد التسعينيات الذي شهد بزوغ نجم بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الحالي الذي ضرب رقمًا قياسيًا في تولي هذا المنصب تجاوزت الـ15 عامًا ليصبح رئيس الوزراء الأطول مدة في تاريخ إسرائيل، بشكل زادت معه التساؤولات في الأوساط الإسرائيلية وغير الإسرائيلية حول وجود دولة عميقة في إسرائيل مكَّنته من ذلك، ومدى تأثير هذه الدولة وماهية مكوناتها.
نتنياهو والدولة العميقة
رغم أن قادة إسرائيل يعرّفونها على أنها ديمقراطية متكاملة بل واحة الديمقراطية في منطقة تعج بالديكتاتورية والاستبداد، إلا أن نتنياهو نفسه هو أول من كشف عن وجود «دولة عميقة» في إسرائيل من خلال تصريحاته المثيرة للجدل مطلع عام 2020 عن وجود دولة عميقة تمنعه من تولي مقاليد الحكم أو ممارسة مهام منصبه رئيسًا للوزراء بشكل طبيعي، ليتهكم عليه بعد ذلك نيتسان هوروفيتس، زعيم حزب «ميرتس» اليساري الإسرائيلي في مقال له بصحيفة «هآرتس» عن إمكانية وجود مثل هذه الدولة العميقة في إسرائيل.
ومن وجهة نظري أن تصريحات نتنياهو والجدل الذي صاحبها في إسرائيل هي انعكاس لحالة صراع سياسي ليس إلا، ولا تكشف عن دولة عميقة في إسرائيل بقدر ما كانت تمهيد سياسي لإجراءات صعبة اتخذها نتنياهو وحزبه الليكود فيما بعد وأطلق عليها اسم «الاصلاحات القضائية» وتتمثل في تقويض دور المحكمة العليا الإسرائيلية لاسيما فيما يتعلق بالتصديق على القرارات التي يعتمدها الكنيست، وهو ما أثار ضجة داخل إسرائيل امتدت لخارجها لاسيما إلى الولايات المتحدة، لم تهدأ إلا بنشوب حرب الـ7 من أكتوبر مع غزة.
مع ذلك فلاشك عندي من وجود مثل هذه الدولة العميقة في إسرائيل والتي لا يشارك فيها مسؤولون أمنيون إسرائيليون سابقون وحسب بل رجال أعمال وإعلام إسرائيليين ويهود لاسيما من أمريكا وفرنسا وبلدان أخرى، ويقيني ذلك يستند على عدة مؤشرات ودلائل أبرزها سلسلة تحقيقات نشرتها هيئة البث الإسرائيلية في شهر مايو عام 2019 عن تجليات «دولة الظل» أو «الدولة العميقة» في إسرائيل وبدأتها بالشرطة ثم القضاء ثم الإعلام إلا أنها لأمرًا ما أغفلت أو تجاهلت الحديث عن الجيش والمخابرات.
أكدت تحقيقات القناة، بما لايدع للشك، أن هذه الدولة العميقة وشخوصها وأدواتها تلعب دورًا مهمًا في تعيين الشخصيات الهامة غير المنتخبة في إسرائيل لاسيما في أجهزة الشرطة وكذا المنابر الإعلامية المهمة.
يُضاف إلى ذلك أن المُتابع للإعلام الإسرائيلي يلاحظ بقوة أن هناك قنوات تلفزيونية بل مؤسسات صحفية كاملة موالية لنتنياهو تروج له شخصيًا ولأهدافه الانتخابية والسياسية ومنها القناة الرابعة عشرة التلفزيونية وكذا صحيفة «يسرائيل هايوم»، علاوة على اتهامه في قضية فساد شهيرة لمحاولته استماله مسؤولي موقع « واللا » الإخباري الإسرائيلي الشهير للكتابة لصالحه وعائلته في عدد من القضايا.
تجليات الدولة العميقة
هناك عدة تجليات أخرى للدولة العميقة في إسرائيل نضحت على السطح من خلال عدة أحداث، لعل من أبرزها، من وجهة نظري، حينما حاولت الشرطة الإسرائيلية اعتقال بتسلائيل سموتريتش وزير المالية الحالي وأحد أبرز قادة حركة «الصهيونية الدينية» المتطرفة في إسرائيل عام 2007 لاعتزامه تنفيذ عمليات إرهابية، وحينها قال للشرطة الإسرائيلية «إذا لم تتركوني سأكشف عن الشخصيات المتورطة في قتل اسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل»؛ وهو ما تم تفسيره على أن شخصيات حكومية وأمنية واستخباراتية إسرائيلية ثقيلة كان لها دور في اغتيال «رابين» الذي اقترب من تحقيق سلام شامل مع العرب والفلسطينيين لربما كان أفضى لقيام دولة فلسطينية، ما يؤشر إلى وجود دولة عميقة لها نفوذ كبير بل قدرة على تنفيذ اغتيالات سياسية.
التجلي الآخر يتعلق بالمؤسسات الأمنية الإسرائيلية وذلك من خلال ما كشف عنه الصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان، أشهر الصحفيين الإسرائيليين في المجال الأمني والاستخباراتي، في تحقيق له بصحيفة هآرتس يوم 4 يناير 2022، فقد أشار إلى أنه كان قد كشف عن نشاط مخالف للقانون في إحدى شركات الصناعات الأمنية الإسرائيلية وذلك بناء على طلب دولة أجنبية، وأنه في أعقاب نشره تقريره حول هذه الشركة في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، تم حظر النشر عن هذه الشركة ونشاطها بأمر قضائي وذلك بإيعاز من الشرطة ووزارة الدفاع الإسرائيلية، وكذلك تدخل من الموساد الذي أصدر تقريرًا سريًا يحذر من أن النشر عن هذه القضية سيضر بمصالح إسرائيل مع دولة أجنبية.
ورأى «ميلمان» في مقاله أن هذه القضية تُجسد ما تمثله وزارة الدفاع من دولة عميقة داخل إسرائيل أو دولة داخل الدولة تفعل أي شيء يحلو لها تقريبًا، دون إشراف برلماني فعَّال، وبتعاون ودعم وثيقين من النظام القانوني؛ إذ ألمح «ميلمان» إلى أن هناك قضاة معينيين يمررون أي شيء تطلبه منهم الأجهزة الأمنية.
سمات الدولة العميقة ومكوناتها
في ضوء ما سبق يمكن تحديد عدة سمات لـ«الدولة العميقة» في إسرائيل والتي تتصف بأنها «مركبة ومعقدة»؛ بسبب تعقيدات المشهد السياسي الإسرائيلي ووجود عدة مكونات ظاهرة وخفية تتحكم فيه.
في هذا الصدد، اتفق مع الخبير الإسرائيلي بنحاس يحزيقلي الظابط السابق بالشرطة الإسرائيلية والخبير في معهد «احفا» الإسرائيلي للدراسات على أن الدولة العميقة في إسرائيل «ليس لها طابع تآمري» بمعنى أنه ليس بامكان مجموعة من الضباط أو المسؤولين الأمنيين السابقين أو الحاليين التآمر لاسقاط رئيس وزراء أو وزير على سبيل المثال، إلا أنه كان من اللافت قول «يحزيقلي» إنه في بعض الأحيان يجب تخليص إسرائيل من بعض السياسيين قببل أن يصلوا لمناصبهم، ما يعني أن للدولة العميقة في إسرائيل قدرة على منع بعض الأشخاص للوصول إلى مناصب رفيعة معينة، لكن ليست لديها القدرة على الإطاحة بهم بوسائل غير قانونية أو تآمرية.
يقودنا ذلك للقول إن تَكوّن الدولة العميقة في إسرائيل وتناميها وظهروها لاسيما مؤخرًا مع الأزمة المعروفة بـ«الاصلاحات القضائية» التي قادها نتنياهو وحزبه عائدة بالأساس إلى عوار في النظام الديمقراطي الإسرائيلي، والذي يُقسم الصلاحيات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بشكل أدى إلى تصادم كبير بينهم مؤخرًا، لاسيما وأن السلطة القضائية بالتحديد تملك صلاحية إلغاء قرارات تشريعية، والسلطة التنفيذية في حد ذاتها منبثقة عن السلطة التشريعية المنتخبة شعبيًا، وهو نظام رغم هدفه ضمان صيرورة الدولة بشكل ديمقراطي إلا أنه أدى لتشكل دولة عميقة يشارك فيها القضاء بشكل ملحوظ.
لا شك كذلك أن هذه الدولة العميقة في إسرائيل لها ارتباطات خارجية لاسيما في الولايات المتحدة؛ إذ من غير المعقول تجاوز فكرة أن اللوبي اليهودي/ الصهيوني في إسرائيل يمثل طبقة مهمة من طبقات الدولة العميقة في إسرائيل، لاسيما وأن هذا اللوبي له تأثير على رجال أعمال وساسة يهود أمريكيين ومنهم من يملك أو يمول وسائل إعلام إسرائيلية مهمة وذات تأثير.
وارتباطًا بالإعلام أيضًا لا يمكن تجاهل أن وسائل إعلام إسرائيلية معينة ومن يقف ورائها من رجال أعمال لهم دور وتأثير بالدولة العميقة في إسرائيل، وهو ما كشفته دراسة بعنوان (ملكية وسائل الإعلام كاستثمار سياسي: يسرائيل هيوم نموذجًا) أعدتا مجموعة من الباحثين بحامعات تل أبيب وبنسلفانيا وكولومبيا وتركزت في بحث مدى وأشكال تأثير صحيفة «يسرائيل هيوم”»، الصحيفة اليومية المجانية الإسرائيلية التي أسسها الزوجان اليهوديان الأميركيان مريم وشيلدون إدلسون وبدأ صدورها اليومي المنتظم في إسرائيل يوم 30 يوليو 2007 ثم سرعان ما أصبحت تحتل، ابتداء من العام 2010 ، المرتبة الأولى في تدريج انتشار الصحف الإسرائيلية.
وقد خلصت الدراسة إلى أن «يسرائيل هيوم» مارست تأثيرًا ملحوظًا جدًا على أنماط التصويت في إسرائيل وأنها استطاعت «نقل» عدد من المقاعد البرلمانية (يتراوح بين اثنين وثلاثة مقاعد، على الأقل) نحو اليمين، وخصوصاً لصالح حزب الليكود بزعامة نتنياهو، خلال المعارك الانتخابية البرلمانية العامة الثلاثة قبل الأخيرة على وجه الخصوص.
وورد في الدراسة على لسان من أعدوها أنه «بالرغم من إطلاعهم على الدراسات التجريبية والنماذج المختلفة الخاصة بتأثير وسائل الإعلام على أنماط التصويت، وهو ما شكل أحد دوافعهم المركزية لإجراء دراستهم هذه، إلا أن ثمة شكوكاً كانت تساورهم بأن حالة “يسرائيل هيوم” تختلف عن كل ما سواها، وذلك لسببين مركزيين: الأول ـ أن الزوجين اللذين يمولان إصدار هذه الصحيفة منذ يومها الأول وحتى يومنا هذا، لم يكونا يبحثان عن جني أي ربح مادي من وراء إصدارها ولم يطمحا إلى ذلك، مطلقاً. والثاني ـ أن النموذج الذي اختاراه لتحقيق التأثير المرغوب والمرجو قد حقق لهما مبتغاهما بالفعل على أرض الواقع. أما النموذج المقصود هنا فهو: توزيع الصحيفة اليومية بالمجان طوال كل هذه السنوات».
وهو ما يعني أن «يسرائيل هايوم» تهدف للتأثير السياسي أولا وقبل أي شيء وبالتالي فهي تمثل الذراع الإعلامي لدولة عميقة في إسرائيل هدفها تصعيد الليكود وبقاء نتنياهو في السلطة.