علاء حمدى قاعود يكتب: عِشْقُ الجَان
استيقظت من نومى فى فزعٍ شديد وأخذت أستجمع أشلاء نفسى المبعثرة بتثاقلٍ مميت وارتباك واضح لمن حولى، جلست على السرير مقطبة الحاجب، وبنصف عينين مفتوحتين أخذت أرمق الجميع بنظرات فاحصة، أين هو صمت الجميع بعد أن كان المكان يعج بالحركة وازداد الصمت، ولكن أين هو أين ذهب، وبدأت تتصارع فى نفسى التساؤلات، ماذا حدث لى أكنت أحلم أم أنها حقيقة، وإذا كان حلماً فلماذا أسمع الآن الأصوات التى كنت أسمعها، عاد الجميع إلى ما كانوا عليه، وإذا كان ما حصل لى حقيقة فأين هو ولماذا يبدو الأمر طبيعياً حولى رغم ما فعله بى أخذت أتوغل فى الأفكار المضنية والمتعبة، ولكنى مازلتُ أشعر بألمٍ فى جسدى من أثر قبضات يديه على، ولكن لا أحد غريب هنا وأسندت رأسى بثقلٍ شديد وأخذت أحدق النظر بجهاز التلفاز إنه نفس الصوت الذى كنت أسمعه قبل قليل برنامج الأطفال الذى يشاهده أخى ثمَّ قلتُ لنفسى قد يكون مصادفةً، ثمَّ انتقلت بعينى إلى أختى فهى ما تزال بزى المدرسة، وهذا يؤكد ما كنت أسمعه كانت تحدث إخوتى عن يومها الدراسى، وكنت أستنجد بها، ولكنها لا تسمعنى وعندما نهضتُ حاولت أن تصبح على وتداعبنى كالمعتاد، ولكننى لم أعرها اهتماماً وذلك يعنى أن الأمر طبيعى، وأننى كنت أحلم وما بى من تعب فمن آثار النوم الطويل فوثبتُ من السرير، وحينها تحققت من أن ما حدث لى لم يكن حلماً أبداً لأننى سمعت أختى تنهر أخى عن أكل الفستق فى حجرة النوم، وها هى آثار الفستق أمامى هنا وهناك وعصفت بى رياح الشكوك والظنون مرةً أخرى أين هو ولماذا لم يره أحداً غيرى بل لماذا لم ينقذنى منه أحد.
ما زالت عيناى تتجولان هنا وهناك وسرتُ خطوة واحدة نحو الباب، فكانت أمى تتراءى لى من بعيد فى سحابة غائمة من الألوان هناك فى المطبخ لم تكن صورتها ثابتة فى عينى، وإنما عرفت أنها أمى اقتربْتُ شيئاً فشيئاً، ولكن لم يظهر أى شخص وعندما رأتنى أمى رحبت بى، ثمَّ قالت نمتِ نوماً عميقاً اليوم هيَا أسرعى فى غسل وجهك لمناداة الجميع للغداء، اقتربْتُ منها أكثر، ولكننى لم أتكلم بحرفٍ واحد ولم أُقبلها كالمعتاد، وأطلقتُ زفرةً طويلةً واتكأتُ على باب المطبخ وببطء كان جسدى ينزل وجلست على الأرض معترضةً الطريق على الباب وبدهشةٍ مَلأَت عينى أمى اقتربَتْ منى، وقالت ما هذا الشحوب الذى يكسو وجهك.. تأملت عينيها اللامعتين وفى عَينى حيرةٌ تفوق حيرة عينيها، وتساءلت فى نفسى أأقول لها أم أصمت، وماذا أقول لها لو قلت لها ما حدث لى فقد تتهمنى بالجنون، وإذا صمتُ فهى لن تصمتْ.
أجهشتُ بالبكاء حينها قامت أمى إلى باب الحجرة التى بها أخوتى وأقفلَتهُ وطوقتنى بذراعيها، وقالت ما بكِ يا حبيبتى فقلت لها بصوت أجش لو قلت لكِ ما بى ستقولين عنى مجنونة، فردت فى غير ثبات ما بكِ سأصدقكِ ولن أقول عنكِ مجنونة ما بكِ يا حبيبتى شعرت أننى تورطت ولا محالة لابد من البوح بالسر، وقلت لها أمى أيمكن أن أتختلط الأحلام والحقيقة فأجابتنى لا أفهم ماذا تقصدين، أمى كنت دوماً أحلم بأشياء تفزعنى فى النوم، وأنَّ ثقلاً يهبط على صدرى وأستنجد بمن حولى ولا أحد ينقذنى، فرمقتنى أمى بنظرة عتاب وشهقت بعمق وقالت لى آه يا ابنتى لقد أفزعتنى إن هذه الكوابيس قد تحدث لمعظم الناس بعد عشاءٍ دسمٍ أو زعلٍ شديد، فجارتنا أم على غالباً ما تشكو للجارات من ذلك الجاثوم، ولكن يا أمى وفى خجل شديد قلت لها أمى إن الوضع هذه المرة مختلف لقد كنت أشعر يا أمى بوجود رجل بجوارى يضغط على صدرى ويدٌ بقوة عنيفة تُرغمنى على النظر إليه، وكنت أمتنع عن ذلك وأصرخ فقالت فى فزع رجل نعم يا أمى رجل طلب منى الزواج بى، ولكننى كنت أرتعد خوفاً منه لا أراه ولكن أشعر به فقط، وأسمع همسه فى خواطر نفسى له صوت به حشرجة أسفر عن رغبته الشديدة بى وحبه وولعه بالقرب من أكثر وأكثر، وقال لى أنا أعيش معكِ ولكن أتمنى أن يكون ذلك برضاكِ أيضاً، وأخذ يتوسل إلى أن يعيش معى بالصورة التى أريدها أنا وكان يعرض على صوراً عديدة لأختار منها شكلاً معيناً، وكنت أصرخ بحنقٍ شديد وكنت أمتنع عن النظر إلى الجهة التى يضغط بها على جسدى وأصرخ برفض قربه ورعبى منه، ورغم عنى أرانى صورا منها صورة خطيبى الأخير ماجد، فزعتُ أكثر يا أمى عندما رأيت الصورة وأصبحت أتوسل لإخوتى أن ينقذوننى من قبضة يديه، فأنا أسمع أصواتهم جميعا،ً ولكنهم لا يردون على وكأنهم لا يسمعوننى وأصبحت أُسمى بالله، وأقرأ أية الكرسى فى خواطر نفسى وبعد بُرهة خف ضغطه شيئاً فشيئاً وقمت متعبةً، ولكننى لم أجده لم تكذبنى أمى، ولكنها قالت لى عليكِ ألا تنامين قبل أن تصلى وتذكرى الله وانتهينا إلى هنا. وكالمعتاد فُرْكشَتْ خِطبتى الأخيرة، ولم تتم ولكن بعدها قررت أمى بلا وجل أو تردد من موقفى قائلة لى لابد من أخذكِ إلى شيخٍ يرقيكِ، فلم يبقَ أكثر من هذا نذيرا، ذهبنا إلى الشيخ وأخبر أمى بأن ابنتك تسكنها روح تعشقها منذ الطفولة، كما يبدو لى ولن تسمح لها هذه الروح الشريرة بالزواج حتى تفارقها وأعطى لها علاجاً، وأكد عليها بالاستمرار على ذكر الرقية القرآنية حتى لو ازدادت حالتها.
استمررتُ على ذلك العلاج فترة وبعدها بدأت حالتى تزداد سوءاً شيئاً فشيئاً ولم تعد رغبات تلك الروح خفية فى خواطر نفسى، بل أصبح يعلنها أمام الجميع أخذ اليأس يحطم أعماقى وأصبح المستقبل بالنسبة لى مجهولاً، ويلتف فى رداءٍ غامقٍ وأما الماضى فقد ولى وولى معه المجد فلم يعد باستطاعتى أى شىء وكأن عقلى قد كُبل، حتى أصبح هناك صراع فى أعماقى عن ما هيتى وراودتنى الحيرة، إما أن أقبل تلك الروح حتى أعود كما كنت أو أستمر على ما أنا عليه الآن، وفى الوقت نفسه أخسر أثمن ما يريده بشر الخلود فالذكرى حياة أخرى للبشر، وأنا فى وطأة هذا السأم والتفكير ارتفع صوتٌ عالٍ فى أعماقى متوسلاً لى يجهش بالبكاء قائلاً لى أنا أحترق بدمكِ تكويننى نار حبى الهائل لكِ عشقتُكِ منذ عرفت الحياة منذ آلاف السنين لم أعشق أنثى سواكِ لا من إنس ولا جان، كنا فى طفولتنا قبل ألف ليلة وليلة نجتمع نحن أطفال الجن عند جدنا الأكبر صيصفون، ويحكى لنا حكايات السالفين من العاشقين وكان يقول ما من بشر يعشقه جنى إلا ويكتب له الخلود وتبقى ذكراه عبر التاريخ، أما نحن بنو الجن فنعيش عمراً أطول فى أعمال البشر ومع ذلك تموت ذكرانا عندهم وتخلد أسماؤهم فقط، ومن بين أغرب حكايات العشاق عندنا التى نجَّم بها صيصفون، وأخبرنا بها بأنها ستحدث قصتان الأولى أن جنياً سيعشق امرأة من بنى البشر، ويكون ذلك فى عهد يقال له شهريار وهذا الجنى لولعه وحبه لهذه المرأة يتلبسها، ويسكن فيها وينقذها من الموت ويحيى معها طوال حياتها وقد ظهرت هذه المرأة وهى شهرزاد، وقد ظلَّ أخى شيتون يسرد على لسانها ألف ليلة وليلة حكايات عن بنى الإنس والجان وحُفر اسم شهرزاد فى ذاكرة كل البشر وظل كل الإنس يعرفون شهرزاد، ولا يعرفون سر هذا العاشق المسكين وهو ما يزال على قيد الحياة وبصورة يُرثى لها ولا يُحيه سوى سماع أبناء البشر يرددون اسم شهرزاد.