حسن إسميك يكتب: تمخّضت الـ CIA .. فولدت فأراً

كتب_محمود العربي

 

رفعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن السرية عن تقرير الاستخبارات عن ما سمّته “دور الحكومة السعودية في اغتيال خاشقجي”.

لقد أثار لدي “رفع السرية” أسئلة كثيرة، لكني أؤكد أن أقل ما يمكن أن يقال عن هذا التقرير إنه مُسيَّس حتى النخاع.

لا يحمل هذا التقرير أي وضوحٍ ذي قيمة قانونية، فالاتهام لا يعني الإدانة بأي حال، فكيف إذا كان يفتقد لأي دليل أو برهان، ناهيك عن كونه يغُصّ بعبارات تحمل من الشك ما لا تحمله من الجزم، مثل: “نحن نقدر”، “من المحتمل أن”، “من غير المرجح أن”، “ادعى”، “لا نعرف إلى أي مدى”، رغم أنه لا يتجاوز ثلاث صفحات!

من المعروف أن تقارير الاستخبارات الأميركية بالعموم لا تخلو من التسْييس، وقد غزت أميركا العراق يوماً بناء على تقارير استخبارية لم يثبت لها أي علاقة من الصحة، وأدت إلى حدوث انتكاسات كبرى في السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، ما زالت واشنطن تعاني من تبعاتها حتى اليوم. والسؤال المُلِح عن التالي من الخطوات، فمن الممكن أن يكون رفع السرية هو إجراء لمرة واحدة في هذا الملف، فيكون بايدن قد حقق “نصره” بالانقلاب على كل أفعال سلفه ترمب –حتى الإيجابية منها، ويكون من حيث لا يدري قد أراح السعودية من ورقة ضغط وابتزاز تهددها بها أميركا من وقت لآخر. أما إذا ظن بايدن أن بإمكانه مواصلة اتهامات التقرير والذهاب بعيداً، فعندها ستكون العواقب وخيمة، على الولايات المتحدة، قبل السعودية أو ولي عهدها.

أيحاول بايدن أن يقنع الداخل الأميركي أن إدارته تُعلي حقوق الإنسان على المصالح السياسية كافة؟! حينها ألن يسائل الداخل الأميركي بايدن عن حقوق الإنسان في إيران التي يريد أن يهادنها؟! بل إنه يقدّم لها مغريات لتعود إلى الاتفاق النووي فينتقل قمعها وانتهاكها لحقوق الإنسان، من الداخل الإيراني ليشمل ترويع الشرق الأوسط كله وإرهابِه بميليشياتها.

يُظهر تصرف بايدن أنه لم يتعلم من أخطاء سلفه الديمقراطي المباشر أوباما. فأسلوب بايدن –وإدارته بالعموم– في الحديث عن السعودية لا يختلف أبداً عن رؤية أوباما لدول الخليج، الرؤية التي لم تأتِ بأي نتائج إيجابية لا على المنطقة ولا على الولايات المتحدة، ولم تسهم إلا بمزيد من التغوّل الإيراني في العالم العربي، ونشر الميليشيات المسلحة والإرهابيين في مناطق نفوذها على امتداد الهلال الشيعي الذي يشمل اليمن!

في السياق نفسه، أوَلا يتذكر بايدن آخر مرة حاولت فيها إدارة أميركية أن تميّز نفسها وتزيد شعبيتها عبر استغلال خطاب “الدفاع عن حقوق الإنسان”، تتساءل الصحافية الأميركية كارين إليوت هاوس على صفحات مجلة جامعة هارفرد؟ لقد دفع الرئيس الأميركي الديمقراطي حينها، جيمي كارتر، بشاه إيران نحو الهاوية، فوقع الأخير بين خصومه المتربصين في الشارع، وبين كارتر “القلق” على حقوق الإنسان في البيت الأبيض، والذي لم يقم بما يجب القيام به لدعم الشاه، فجرت الإطاحة به لصالح حكم شمولي يتخفى وراء الإسلام لتحقيق أهداف التوسع والهيمنة على المنطقة، ويهدد مصالح أميركا في بقاع مختلفة من العالم، أولها أزمة الرهائن الأميركيين في طهران سنة 1979، فكانت الـ 444 يوماً من الاحتجاز كفيلة بإنهاء حكم كارتر وعدم انتخابه لولاية ثانية.

إصدار التقرير خطوة “متهورة”، والحديث هنا ليس لي، بل لوزير الخارجية الأميركية السابق بومبيو الذي قال في 28 شباط/فبراير لقناة فوكس نيوز “كان إصدار هذا التقرير متهوراً، كان مسيساً، وكان يهدف إلى تطوير العلاقة مع إيران والإضرار بالعلاقة مع السعودية من خلال استخدام المعلومات الاستخبارية بطريقة لم أكن لأقوم بها أبداً كمدير سابق لوكالة المخابرات المركزية… لذلك يؤسفني أنهم اختاروا القيام بذلك”. بالفعل “شهد شاهدٌ من أهلها”.

لماذا يُقامر بايدن بتصرف كهذا؟! من نافل القول إنَّ الولايات المتحدة لا تستطيع التخلي عن السعودية، فمن يرى أن تراجع احتياج واشنطن للنفط كفيل بفًضّ شراكتها الاستراتيجية مع الرياض، لا يعرف من السياسة شيئاً، ولا يدرك مركزية السعودية في الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها وضبط إيقاع مجرياتها، وبالتالي ما الذي يريد بايدن قوله وما هي الرسالة التي يريد إيصالها برفع السرية عن هذا التقرير؟

مازالت الحيثيات بمعظمها غامضة، لكن هذا الغموض ليس بناءً على الإطلاق. أسأل نفسي مُتشككاً: هل حقاً لا تدرك أميركا مكانة السعودية في المنطقة وتأثيراتها وأدوارها الممكنة على كل الصعد وفي مختلف الملفات؟ وتحديداً تأثيرها الكبير على مصالح الولايات المتحدة ذاتها في المنطقة، هل استغنى بايدن عن مصالح بلاده في الشرق الأوسط، وعن أمن الخليج، وعن عملية السلام، وعن احتواء إيران، وبناء الاستقرار في الشرق الأوسط ومواجهة التطرف المتمثل بالإسلام السياسي واجتثاث جذور الإرهاب؟ وأكاد لا أبالغ إن قلت إن تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف يصبح خيالاً إذا لم يكن للسعودية دورها الفاعل فيه.

على الرئيس الأميركي أن يتنبه للنتائج البعيدة أو غير المقصودة لهذا النوع من الأفعال، من المؤكد أنه سيواجه مزيداً من ضغوط الديمقراطيين في الكونغرس وجماعات حقوق الإنسان “لمعاقبة” المملكة، ناهيك عن المتربصين الكثر بالرياض، من اللاعبين الإقليمين والدوليين، أولئك الذين يريدون إضعافها وسلبها دورها الفريد في العالمين العربي والإسلامي، ويسعون لتقويض كل جهود بناء السلام والاستقرار في المنطقة… أولئك الذين يريدون وضع العُصيّ في عجلة التنمية والتطوير والانفتاح التي بدأها ولي العهد السعودي على كافة الصُعد، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والتكنولوجية… وحتى الحقوقية، ويسير على طريقها بِخُطى ثابتة وواثقة. ألم يسأل بايدن نفسه: من المستفيد من أي شقاق بين السعودية وأميركا، ومن الذي سيتدخل لملء أي فراغ تتركه الولايات المتحدة في علاقتها مع السعودية؟ روسيا؟ أم الصين؟ أهذا ما يريده بايدن والديمقراطيون من ورائه؟

إن هذا الغياب للمنطق السياسي من وراء سلوك الإدارة الأميركية يطرح أسئلة كثيرة ويسمح بالتشكيك بعقلانية صنع القرار الأميركي. رغم أن إدارة بايدن قد سربت فوراً بعد نشر التقرير تصريحات لصحيفة نيويورك تايمز تؤكد أن “التكلفة الدبلوماسية باهظة للغاية”. وإذا كانوا يدركون هذا الأمر فلماذا رفع السرية من البداية، هل هو فقط انقلاب على سياسة ترمب والجمهوريين، وإغفال تام لنتائجها الإيجابية بالشكل العام، وكأن الديمقراطيين يُرَكِّزون على الجزء وعلى تفاصيل صغيرة متعامين عن الصورة الكاملة وعن الخير العام للمنطقة.

هذا التقلُّب وعدم الاتساق، كان ولا يزال مُشكلةً كبرى من مشاكل السياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقتنا، وهو ما سيُهدِّدُ مصالحها في الشرق الأوسط والعالم العربي، وليس الفواعل الدولية من قبيل السعودية التي كانت على الدوام حليفاً ثابتاً لأميركا وصديقاً صدوقاً رغم كل الضغوط التي تعرضت لها الرياض من أجل هذه الصداقة.

سؤال أخير للسيد بايدن: لماذا يُصِرّ الديمقراطيون على اختبار صبر قادة السعودية؟ وإلى متى سَيَظَلُون يراهنون على هدوء حكام المملكة وطول أناتهم ونَفَسِهِم الطويل في العمل السياسي؟ وهل على المواطن العربي أن يتحمل دائماً تبعات وعواقب التَّبدُّل في السياسات الأميركية وافتقارها للرؤى البعيدة والاستراتيجيات الواضحة، وليس أكبر هذه التبعات انتشار التطرف والإرهاب، واتّقاد النِزَاعات والحروب الأهلية والمذهبية، ونُكوص مشاريع التنمية والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ فأيُّ حقوقٍ للإنسان في ذلك كله؟

سؤالي الأخير المُلحّ عن حقوق الإنسان باعتبارها ليست مجرد شماعة للاستهلاك السياسي على طريقة ديمقراطيي أميركا، هو سؤال جاد وحقيقي عن التزام الإدارة الأميركية بقيم الليبرالية والإنسانية كما تُقرُّها الثقافة الأميركية، وتساؤل في الوقت ذاته عن أخلاقيات السلوك الأميركي، السياسي والعسكري، ومهنيته ومصداقيته… أوليست سياسة الابتزاز التي يمارسها ديمقراطيو واشنطن اليوم ضد السعودية، ومُورِست في فترات أخرى سابقة، ومع دول أخرى أيضاً، هي سياسة بعيدة كل البعد عن حقوق الإنسان. ثم وبعيداً عن الكيل بمكيالين، ماذا عن الإخفاقات الأميركية الكبيرة في ملف حقوق الإنسان، والتي مات وقُتل وعُذّب بسببها الكثيرون؟

من المؤكد أن الاستمرار في هذا الخطاب غير الأخلاقي والبعيد عن السياسة من قبل إدارة بايدن بغية نجاح حاكم للبيت الأبيض الجديد في إثارة انفعالات الأميركيين وعواطفهم، أو ربما في إشباع فضولهم، هو أمر يضر بأميركا ومصالح شعبها، ويؤذي حلفاءها وشركاءها، ويتنافى مع قيم العمل السياسي وأخلاقياته، وحتى لو زعموا أن سلوكهم هذا براغماتيٌّ على المستوى القريب، فإنه لن يكون كذلك أبداً على المستوى الاستراتيجي البعيد.

المقال عن العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى