حسن إسميك يكتب: صفقة القرن.. وأبجدية التفاوض على خطى النبي الكريم

 

تتوصل الدول المتخاصمة عادة إلى السلام بعد سلسلة طويلة من المفاوضات التي تتوج في حال نجاحها بـ “اتفاقية سلام”. والتفاوض وإبرام الاتفاقيات، أي إحلال الأمن والاستقرار والاعتراف بالمصالح المتبادلة، يمثلان الهدف الأساس في العلاقات السياسية والدولية، أما الحرب فلا يمكن أن ينشدها أحد حتى من مراهقي السياسة، إلا إذا أراد المنادون بها بلوغ غايات غير معلنة وتحقيق أجندات ضيقة ذات أبعاد شخصية. وما لم تكن الحرب أداة لصناعة السلام فهي حكماً: إما “دون كيشوتية” تبيع الوهم، وإما من النوع الذي يشنه “قطاع الطرق” ممن لن يرتضوا بالسلم لأنه يحرمهم من عائدات شرورهم. فهل من البطولة في شيء أن نتشدق برفض السلام؟!
بدءاً، السلام ليس مجرد اتفاقيات تبرمها الأحبار على الورق، بل هو مطلب فردي وإنساني أيضاً، لأنه الحالة الطبيعية التي فطرنا الله عزّ وجلّ عليها؛ وهو القاعدة، لأن الحرب ليست سوى الاستثناء الذي يرمي لتطبيق القاعدة (السلام). وبالتالي، فأي مفاوضات سلام لا تؤتي ثمارها إلا إذا انطلقت من قلب صادق راغب فيه فعلاً.
لقد اختار الشعب العربي صادقاً شعار تحرير القدس وفلسطين، ودفع الآلاف حياتهم ثمناً لذلك منذ العام 1936، وتوقفنا في مقالنا السابق “سانشو وشعب الله المحتار” مطولاً عند حروبنا مع إسرائيل وعمالة بعض القادة أو تعنتهم الذي لم يعد علينا إلا بالمزيد من الهزائم والانكسارات. ولا بد أن أقرّ هنا، أن تحرير فلسطين في تلك المرحلة كان من الممكن اعتباره هدفاً واقعياً، لولا أن الإرادة العربية قصّرت عن بلوغ مبتغاها لأسباب لا حاجة بنا للخوض فيها الآن. ثم انكفأ العرب في دويلاتهم، بعد العام 1948، في أطول “تأمل سياسي” عرفه التاريخ الحديث، وانتظروا إسرائيل لتهزمهم مرة أخرى عام 1967، فخسروا المزيد من الأرض وأطلقوا مزيداً من الشعارات في ردهم على تلك الخسائر الفادحة. وهكذا كانت اللاءات الثلاث في قمة الخرطوم: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض.
لكن شتّان ما بين الشعارات والواقع الذي تبعها! لا صلح. صالحت مصر والأردن. لا اعتراف. اعترف ياسر عرفات ومنظمته. لا تفاوض. وُلدت أوسلو من رحم مفاوضات سرية. وتعرضنا لمزيد من السقوط والهزائم.

ومنذ حرب أكتوبر عام 1973 خاض عرب “الطوق” مفاوضاتهم الفردية، فذهب السادات إلى القدس بمباركة أبو عمار، ووقّع الأردن اتفاقية وادي عربة، قبل أن يفاجئ عرفات الجميع بإخراج اتفاقية أوسلو السرية إلى النور، ويحجز لنفسه بفضلها كرسي الحكم الى الأبد. أما السوريون فخاضوا جولات من المفاوضات مع الأميركيين والإسرائيليين، في جنيف ومدريد وواشنطن، لم تغنِ كلها ولم تسمن من جوع.
أراد العرب أن يُحَصِّلوا بالمفاوضات ما خسروه في الحرب، فكان الفشل حليفهم. وأنا هنا لا أهاجم مبدأ اللاءات الثلاث، لكن الصوت الرافض لا ينطلق من بندقية صامتة، وإلا فإن العدو سيطلق النار على كل “لا” يرفعها الرافض.

باتت إسرائيل تسيطر على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، وتسيّج نفسها بالجدران العازلة، فيما كنّا نُسيّج أنفسنا بشعارات الثورة الإيرانية، فنطلب الموت لأميركا وإسرائيل في الأخبار والخطابات، بينما إسرائيل تتمدد وتمعن في التمدد على نحو فاق توقعاتنا بكثير، وإيران تتغلغل بشكل جعل تحمّلها فوق طاقتنا. فهل من الذكاء أن نظل أسرى لعقلية “لاءاتنا”؟ وهل من المنصف أن نجعل شبابنا العربي (في دول الطوق خصوصاً) رهائن لشعارات الموت وكهنته؟ هل هذا بديل أفضل للسلام الذي نرفضه ونشتمه ونخوّن صانعيه؟
لعل من الفضيلة الاعتراف بأن دول الخليج العربي وقفت تاريخياً إلى جانب القضية الفلسطينية ودول الطوق وساندتهم، فقدمت الدعم الاقتصادي وشاركت مشاركة فعّالة أثناء حرب 73، كما تبنت جميع قرارات القمم العربية الخاصة بفلسطين، رغم يقينها من عدم صوابية الكثير منها، وذلك حرصاً منها على عدم شق الصف العربي، ورفضت أخيراً، أسوة بالقيادة الفلسطينية، عرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي عُرف بصفقة القرن. إلا أن الفلسطينيين والعرب خارج الخليج لم يقدموا أي بدائل سياسية أو اقتراحات منطقية لحل القضية، باستثناء “لاءات” التعنت والجمود السياسي.
في هذا السياق، وصف أبو مازن الصفقة بـ “الصفعة”، ووعد بأنها لن تمر وستذهب إلى “مزبلة التاريخ”. لكن كيف سيتحدى المبادرات الدولية والعربية؟ بسيف عرفات الخشبي نفسه الذي لم يحقق سوى الهزائم في جميع معاركه السياسية والعسكرية؟ وهل من مبرر رفض القيادات الفلسطينية لصفقة القرن، سوى ما تتضمنه من فرض انتخابات ديموقراطية ورقابة مصرفية ومالية، تحرمها من فرصة نهب أموال الشعب الفلسطيني التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات؟

قد يقول قائل: هل صفقة القرن هي الحل العادل للقضية الفلسطينية؟ أليس فيها ظلم لنا وانحياز لإسرائيل؟
يجدر بي هنا العودة إلى فن التفاوض والتذكير بمهاراته التي صنعت صلح الحديبية التاريخي، وقد وظّفها النبي الكريم التوظيف الأمثل. فهو عمد إلى اتخاذ كل خطوة كان من شأنها أن تفتح باب السلام الحق، ومثلاً سلك طريقاً وعراً إلى مكة المكرمة كي لا يثير قلق قريش من مجيئه، وعندما نجح بعد محاولات عدة في إطلاق المفاوضات الفعلية، دأب على التنازل مرة تلو الأخرى أمام سُهَيلِ بن عمرو مبعوث قريش، حتى رضي بالتخلي عن كتابة لقبه ” رسول الله” مستبدلاً به “محمد بن عبد الله” في وثيقة الصلح، إرضاء لمفاوضه الذي تعامل الرسول ﷺ معه كشريك لا كخصم، فساومه على الجزئيات من دون أن يحيد عن الأهداف الاستراتيجية.
إن الكثير من القضايا التي يظنها أحدهم مجحفة قد تعود عليه بالخير الوفير، فالمرونة والتضحية ببعض ما أراده المسلمون أتاحت للرسول الكريم واصحابه تحقيق الأهداف الأسمى بالتفاوض، ونشر رسالة الإسلام من مكة إلى العالم بأسره، وذلك من دون إراقة قطرة دم واحدة. ذلك أنهم فهموا تماماً ان التفاوض هو أحد مرتكزات العملية السياسية، والحرب عند العقلاء، خصوصاً في ظل اختلال توازن القوى، هي الخيار الأخير الذي يمكن التفكير به.
لقد ضيّع رفض صفقة القرن أكثر من 50 مليار دولار، كان يمكن استثمارها في بناء الدولة والإنسان الفلسطيني وتفعيل دور الشباب، لأنهم الاستثمار الأهم والأغلى. وهذا يذكّرنا بما قيل عن تعرض الصين للغزو ثلاث مرات خلال مئة عام إثر بناء سورها العظيم، ليس لأنه لم يستطع حمايتها، بل لأن الغزاة كانوا في كل مرة يقومون بدفع الرشى لحراسه فيفتحون لهم الأبواب. ولو أن تلك الأموال التي بُني بها السور استُثمرت في بناء الإنسان الصيني وقتها، لما احتاجت الصين لإقامته نهائياً.

إن رفض القبول بصفقة القرن، وما سبقها من صفقات، قد فاقم الإحباط الذي تشعر به شريحة واسعة من الشارعين العربي والفلسطيني، وحمل واشنطن إلى وضع الصفقة جانباً تاركة إياها تموت في مهدها مسمومة بحقن التعنت وعنتريات القيادات الفلسطينية الفارغة. ووجهت أميركا جهودها نحو دول الخليج العربي التي سئمت عدم اكتراث هذه القيادات بشعبها المنكوب، في ظل التطاحن الداخلي. ومن يستطيع أن يلوم هذه الدول على رغبتها بالسلام مع إسرائيل، لاسيما أن مصالحها الإستراتيجية تستدعي بناء تحالفات سياسية وعسكرية للتصدي للتغلغل الإيراني الذي بات يمثل التهديد الأساس لأمن المنطقة.

إن السلام والمفاوضات وإقامة العلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية تنضوي كلها تحت القوة الناعمة التي تستعملها الدول لتحقيق أهدافها، جنباً إلى جنب مع بناء الإنسان الفاعل والقادر على النهوض بمجتمعه وأمته. وهذا النهج مستلهم من الرسول الكريم الذي اتّبعه حين سار صادقاً إلى قريش، فأوصله إلى قلوب أهلها والعالم.
إذا لم يكن لنا أن نقارع المحتل ونحن على ظهر “الأبجر”، حصان عنترة بن شداد ورفيق معاركه الذي كتب فيه أجمل الشعر، فلنركب “القصواء” ناقة النبي الكريم، ولنهتدِ بنهجه فإن لنا فيه عبرة ورمزاً عظيماً، لا يضيعنا الله به ولا يحيدنا عنه إنشاء الله.. والله ولي التوفيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى